تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
معنى { تَبَّتْ } هلكت وخسرت ، ومنه قوله - تعالى - : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } - سبحانه - : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } وقوله : { وَتَبَّ } أى : وقد تب وهلك وخسر ، فالجملة الأولى دعاء عليك بالهلاك والخسران ، والجملة الثانية : إخبار عن أن هذا الدعاء قد استجيب ، وأن الخسران قد نزل به فعلا . أى : خسرت وخابت يدا أبى لهب ، وقد نزل هذا الهلاك والخسران به ، بسبب عداوته الشديدة للحق ، الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه - سبحانه - . والمراد باليدين هنا : ذاته ونفسه ، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، كما فى قوله - تعالى - : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } ويجوز أن يكون المراد باليدين حقيقتهما ، وذلك لأنه كان يقول : يعدنى محمد صلى الله عليه وسلم بأشياء ، لا أدرى أنها كائنة ، يزعم أنها بعد الموت ، فلم يضع فى يدى شئ من ذلك ، ثم ينفخ فى يديه ويقول : تبا لكما ما أرى فيكما شيئا . وقوله - سبحانه - { مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } كلام مستأنف للانتقال من ذمه والدعاء عليه بالهلاك ، إلى بيان أن ماله وجاهه . . لن يغنى عنه من عذاب الله - تعالى - شيئا . أى : أن أبا لهب لن يغنى عنه ماله الكثير ، وكسبه الوفير من حطام الدنيا . . لن يغنى عنه شيئا من عذاب الله - تعالى - ، أو شيئا من انتشار رسالة الله - تعالى - فى الأرض ، فإن الله - سبحانه - ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم ومؤيده بروح منه . والتعبير بالماضى فى قوله : { مَآ أغنى . . . } لتحقيق وقوع عدم الإِغناء . والراجح أن " ما " الأولى نافية ، والثانية موصولة ، أى : ما أغنى عنه شيئا ماله الذى ورثه عن أبيه ، وأيضا ما أغنى عنه شيئا ماله الذى جمعه واكتسبه هو بنفسه عن طريق التجارة وغيرها . وقوله - سبحانه - : { سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } بيان للعاقبة السيئة التى تنتظره ، بعد هذا الذم والتأنيب والوعيد . أى : سيلقى بأبى لهب فى نار شديدة الحرارة ، تشوى الوجوه والأبدان ، ووصف - سبحانه - النار بأنها " ذات لهب " لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وكفره ، إذ هو معروف بأبى لهب ، والنار موصوفة بأنها ذات لهب شديد . ثم أعقب - سبحانه - ذلك ، بذم زوجه التى كانت تشاركه العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { وامرأته حَمَّالَةَ الحطب . فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } . وقوله : { وامرأته } معطوف على الضمير المستتر العائد على أبى لهب فى قوله { سيصلى } وانتصاب لفظ " حمالةَ " على الذم بفعل مضمر ، لأن المقصود به هنا الذم ، وقرأ الجمهور { حَمَّالَةَ } - بالرفع - على أنه صفة لها ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هى حمالة الحطب .
والمقصود بقوله - تعالى - { حَمَّالَةَ الحطب } الحقيقة ، فقد روى أنها كانت تحمل بنفسها حزمة الشَّوْك والحسك والسَّعْدَان ، فتنثرها بالليل فى طريقه صلى الله عليه وسلم ، لإِيذائه به ، ويصح أن يكون المراد بهذه الجملة الكناية عن مشيها بين الناس بالنميمة ، وإشاعة السوء حول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقول لمن يمشى بالنميمة ليفسد بين الناس ، إنسان يحمل الحطب بين الناس ، أى : أنه يفسد بينهم . ويصح أن يكون المقصود بهذه الجملة ، حملها للذنوب والخطايا ، من قولهم : فلان يَحْطِب على ظهره ، إذا كان يكتسب الذنوب والخطايا ، فاستعير الحطب لذلك . وقد رجح الإِمام ابن جرير القول الأول ، لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه فى طريق النبى صلى الله عليه وسلم . وقوله - سبحانه - : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } زيادة فى تبشيع صورتها ، وتحقير هيئتها . والجيد : العنق ، والمسد : الليف المتين الذى فتل بشدة ، يقال : حبل ممسود ، أى مفتول فتلا قويا . والمعنى : سيصلى أبو لهب نارا شديدة ، وستصلى معه امرأته التى تضع الشوك فى طريق النبى صلى الله عليه وسلم هذه النار المشتعلة - أيضا - ، وسيزيد الله - تعالى - فى إذلالها وتحقيرها ، بأن يأمر ملائكته بأن تضع فى عنقها حبلا مفتولا فتلا قويا ، على سبيل الإِذلال والإِهانة لها ، لأنها كانت فى الدنيا تزعم أنها من بنات الأشراف الأكابر . روى عن سعيد بن المسيب أنه قال : كان لها قلادة ثمينة فقالت : لأبيعنها ولأنفقن ثمنها فى عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فأبدلها الله عنها حبلا فى جيدها من مسد النار . والذى يتأمل هذه السورة الكريمة ، يراها قد اشتملت على أوضح الأدلة وأبلغ المعجزات الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، فإن الله - تعالى - قد أخبر بشقاء أبى لهب وامرأته ، وأنهما سيصليان نارا ذات لهب . . وقد علما بما جاء فى هذه السورة من عقاب الله لهما . . ومع ذلك فقد بقيا على كفرهما حتى فارقا الحياة ، دون أن ينطقا بكلمة التوحيد ، ولو فى الظاهر - فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه - عز وجل - . نسأل الله - تعالى - أن يلحقنا بعباده الصالحين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق